سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ} إلى قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} وإشارةٌ إلى كيفية إنجائهم وإهلاكِ أعدائهم، وتصديرُه بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناءِ بمضمونه، والمرادُ بالفرقان هو التوارةُ وكذا بالضياء والذكر، أي وبالله لقد آتيناهم وحياً ساطعاً وكتاباً جامعاً بين كونه فارقاً بين الحقِّ والباطل وضياءً يستضاء به في ظلمات الجهلِ والغَواية وذِكْراً يتعظ به الناسُ، وتخصيصُ المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره المغتنمون لمغانم آثارِه أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكامِ، وقيل: الفرقانُ النصرُ، وقيل: فلقُ البحر والأول هو اللائقُ بمساق النظمِ الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتبِ الإلهية لا سيما التوراةِ فيما ذكر من الصفات، ولأن فلقَ البحر هو الذي اقترح الكفرةُ مثله بقولهم: فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون، وقرئ: {ضياءً} بغير واو على أنه حالٌ من الفرقان.
وقوله تعالى: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} أي عذابَه، مجرورُ المحل على أنه صفةٌ مادحة للمتقين أو بدلٌ أو بيان أو منصوب أو مرفوعٌ على المدح {بالغيب} حال من المفعول أي يخشَون عذابه تعالى وهو غائبٌ عنهم غيرُ مشاهد لهم، ففيه تعريضٌ بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهِدوا ما أنذروه، وقيل: من الفاعل {وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} أي خائفون منها بطريق الاعتناء، وتقديمُ الجار لمراعاة الفواصل وتخصيصُ إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفِهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظمَ المَخُوفاتِ وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدِلالة على ثبات الإشفاق ودوامِه.
{وهذا} أي القرآنُ الكريم أشير إليه بهذا إيذاناً بغاية وضوحِ أمرِه {ذُكِرَ} يُتذكّر، وُصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقتِه لما مر في صدر السورةِ الكريمة {مُّبَارَكٌ} كثيرُ الخير غزيرُ النفع يُتبرّك به {أنزلناه} إما صفةٌ ثانية لذكر أو خبر {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} إنكارٌ لإنكارهم بعد ظهورِ كون إنزالِه كإيتاء التوراة، كأنه قيل: أبعد أن علمتم أن شأنَه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاءِ أنتم منكرون لكونه منزّلاً من عندنا؟ فإن ذلك بعد ملاحظةِ حالِ التوراة مما لا مساغَ له أصلاً.


{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشدَ اللائقَ به وبأمثاله من الرسل الكبارِ وهو الاهتداءُ الكاملُ المستند إلى الهداية الخاصةِ الحاصلةِ بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمةِ باستعمال النواميسِ الإلهية، وقرئ: {رَشَدَه} وهما لغتان كالحُزْن والحَزَن {مِن قَبْلُ} أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ، وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ، وقيل: من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أي بأنه أهلٌ لما آتيناه وفيه من الدليل على أنه تعالى عالمٌ بالجزئيات مختارٌ في أفعاله ما لا يخفى.
{إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ} ظرفٌ لآتينا على أنه وقت متّسعٌ وقع فيه الإيتاءُ وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله، وقيل: مفعولٌ لمضمر مستأنَفٍ وقع تعليلاً لما قبله أي اذكر وقتَ قولِه لهم: {مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون} لتقف على كمال رشدِه وغايةِ فضله، والتِمثالُ اسمٌ لشيء مصنوعٍ مشبَّهٍ بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بغير التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة، أو شرحُ الاسم كأنه لا يعرف أنها ماذا مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبوداً، وعبّر عن عبادتهم لها بمطلق العكُوف الذي هو عبارةٌ عن اللزوم والاستمرار على الشير لغرض من الأغراض قصداً إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخاً لهم على إجلالها، واللام في لها للاختصاص دون التعديةِ وإلا لجيء بكلمة على، والمعنى أنتم فاعلون العكوفَ لها، وقد جُوّز تضمينُ العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} أجابوا بذلك لما أن مآلَ سؤاله عليه السلام الاستفسارُ عن سبب عبادتِهم لها كما ينبىء عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها، كأنه قال: ما هي؟ هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها؟ فلما لم يكن لهم ملجأٌ يعتدّ به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ} الذين سنّوا لكم هذه السنةَ الباطلة {فِى ضلال} عجيبٍ لا يقادَر قدرُه {مُّبِينٌ} أي ظاهر بيّن بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونُه كذلك، ومعنى كنتم مطلقُ استقرارِهم على الضلال لا استقرارُهم الماضي الحاصلِ قبل زمانِ الخطاب المتناولِ لهم ولآبائهم، أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم ظاهرٍ لعدم استنادِه إلى دليل ما، والتقليدُ إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة.


{قَالُواْ} لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ما هم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيدِ القسمي، وتردداً في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد {أَجِئْتَنَا بالحق} أي بالجِد {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} فتقول ما تقول على وجه المداعبةِ والمزاحِ، وفي إيراد الشِّقِّ الأخير بالجملة الاسميةِ الدالة على الثبات إيذانٌ برُجْحانه عندهم. {قَالَ} عليه السلام إضراباً عما بنَوا عليه مقالتَهم من اعتقاد كونِها أرباباً لهم كما يُفصح عنه قولُهم: نعبدُ أصناماً فنظل لها عاكفين، كأنه قيل: ليس الأمر كذلك {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ} وقيل: هو إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهانِ على ما ادّعاه، وضميرُ هن للسموات والأرض، وصَفه تعالى بإيجادهن إثرَ وصفِه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية، أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه من غير مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه، ورجْعُ الضمير إلى التماثيل أدخلُ في تضليلهم وأظهرُ في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغني عن التأمل في كون ما يعبُدونه من جملة المخلوقات {وَأَنَاْ على ذلكم} الذي ذكرتُه من كون ربكم ربَّ السموات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان {مّنَ الشاهدين} أي العالِمين به على سبيل الحقيقةِ المُبرهنين عليه فإن الشاهدَ على الشيء مَنْ تحققه وحقّقه، وشهادتُه على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباتُه بها، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه {وتالله} وقرى بالباء وهو الأصلُ والتاء بدل من الواو التي هي بدل من الأصل وفيها تعجب {لاكِيدَنَّ أصنامكم} أي لأجتهدنّ في كسرها وفيه إيذانٌ بصعوبة الانتهاز وتوقّفِه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرًّا، وقيل: سمعه رجل واحد {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} من عبادتها إلى عيدكم، وقرئ: {تَوَلّوا} من التولي بحذف إحدى التاءين ويعضُدها قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} والفاء في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ} فصيحةٌ أي فولَّوا فجعلهم {جُذَاذاً} أي قُطاعاً فُعال بمعنى مفعول من الجذّ الذي هو القطعُ كالحُطام من الحطْم الذي هو الكسرُ، وقرئ بالكسر وهي لغة أو جمعُ جذيذ كخِفاف وخفيف، وقرئ بالفتح وجُذُذاً جمع جذيذ وجُذَذاً جمع جُذة. روي أن آزر خرج به في يوم عيدٍ لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن تَرجِعَ بركتَه الآلهةُ على طعامنا، فذهبوا وبقيَ إبراهيمُ عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفّاً وثمّةَ صنمٌ عظيم مستقبلَ الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكلَّ بفأس كانت في يده ولم يبق إلا الكبيرُ وعلّق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى: {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي للأصنام {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى إبراهيمَ عليه السلام {يَرْجِعُونَ} فيحاجّهم بما سيأتي فيحجّهم ويبكّتهم، وقيل: يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبودِ أن يُرجَعَ إليه في المُلمّات، وقيل: يرجِعون إلى الله تعالى وتوحيدِه عند تحقّقهم عجزَ آلهتِهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10